بودكاست ما حكيتو عنا


في زمن الحروب، لا تُقاس المآسي فقط بعدد الضحايا، بل بكيفية رواية قصصهم. وبين أزيز الطائرات وصدى الانفجارات، يبقى سؤالٌ مؤلم يلاحق الذاكرة الجماعية: هل كلّ نقطة دم تُروى؟ وهل لكلّ وجع نصيبٌ من الضوء؟
هذا السؤال لم يكن مجرّد تأمّل عابر، بل تحوّل إلى جدل واسع بين طلاب كلية الإعلام، إثر العدوان الإسرائيلي على لبنان في أيلول 2024. فقد انقسمت الآراء: رأى البعض أن التغطية الإعلامية سلّطت الضوء بكثافة على مناطق معيّنة، بينما طُمست أخرى في الظلّ، وكأن وجعها لا يستحق التوثيق.
أبناء البقاع وبعلبك تحديدًا، عبّروا عن شعور عميق بالتهميش. تحدثوا عن قصص لم يُلتفت إليها، عن منازل تهدّمت بصمت، عن شهداء لم يُذكروا في العناوين العريضة، وعن معاناة مرّت مرور الكرام في نشرات الأخبار. تساءلوا: أين الإعلام من دموع الأمهات؟ من جهود طواقم الإسعاف؟ من أوجاع بلدات لم تحظَ حتى بصورة في تقرير؟
هذه التساؤلات كشفت عن أزمة أعمق: هل يعاني الإعلام من مركزية في الاهتمام؟ وهل ثمّة أصوات تُعتبر "أكثر قابلية للسرد" من غيرها؟ وحتى متى تبقى المناطق الطرفية خارج حسابات "الاهتمام الإعلامي العادل"؟
من جهة أخرى، لم يخلُ الأمر من تبريرات مهنيّة قدّمها بعض الصحافيين، أشاروا فيها إلى صعوبات جمّة واجهوها خلال محاولاتهم تغطية ما يجري في مناطق مثل بعلبك: من مخاطر أمنية، إلى ضعف في البنية التحتية، إلى غياب الدعم اللوجستي. لكن هذه المبرّرات، وإن كانت واقعية في بعض الأحيان، لا تُلغي حقيقة أن الصوت حين يُهمّش، يصبح من الصعب استرجاعه
في نهاية المطاف، تبقى مسؤولية الصحافة أكبر من مجرّد نقل الحدث. هي مسؤولية العدالة في السرد، والإنصاف في الإضاءة، ورفض أن تُقاس المعاناة بمقاييس الجغرافيا أو النفوذ. فالإعلام، حين ينتصر لعدالة الوجع، يكتب التاريخ بأمانة لا تعرف التمييز.
في هذا البودكاست الحواري نستمع الى الصحافي في قناة الميادين، محمد الساحلي، الذي أجرينا معه مقابلة هاتفية وأجاب عن التساؤلات المطروحة.


بودكاست غصن في العاصفة 

في بلدة مقنة، تلك الواقعة في قلب البقاع، حيث تعانق الأرض السماء بصبرٍ وجفاف، كان كل شيء يوحي بالعاصفة. طائراتٌ تعبر فوق الرؤوس، أخبار متسارعة، وقلوب لا تنام. لكن وسط هذا المشهد الملبّد بالخوف، كان هناك وجهٌ واحد بقي ثابتًا: وجه الحاج أحمد، بعينيه المتجذّرتين في التراب، وصوته الذي يشبه صوت الأرض حين تتصدّع ولا تنكسر.
في بودكاست "غصن في العاصفة"، نستمع إلى حكاية رجلٍ لم يغادر قريته يومًا، لا حين هدّد القصف سقف بيته، ولا حين تفرّق الأحبة بحثًا عن ملجأ.
الحوار معه ليس مجرّد استرجاع لذكريات الحرب، بل درس في معنى الانتماء. يروي كيف كان يراقب من سطح منزله الطائرات، لا بعين الجندي، بل بعين الفلّاح الذي يعرف أن كل صاروخ يسقط، يقطع شجرة، يهدم حائطًا بُني بعرق السنين، ويؤلم قلبًا من لحمٍ وذكريات."
"غصن في العاصفة" ليس فقط اسمًا لمقطع صوتي، بل صورة تختصر حكايته. غصنٌ متأرجح في ريح الحرب، لكنه باقٍ، متشبّث بجذوره، يحمل على عاتقه تاريخًا، ويمدّ ظلّه للأحفاد.
في زمنٍ تغيب فيه التفاصيل الصغيرة، هذا البودكاست يعيد للحكاية وجهها الإنساني. يُنصت للصوت الذي عادة ما يضيع في زحمة الأرقام والعناوين: صوت الجدّ الذي بقي، كي لا تُمحى القرية من الذاكرة.

بودكاست ذكرياتُ مترنحة

في خضم جولةٍ حامية الوطيس، وفي منتصف ليلةٍ من ليالي تموز الحامية عام 2006 ومع صمود الطاقم التمريضي لمستشفى دار الحكمة الذي قدم شهيدًا مغوارا وسدًا منيعًا بوجه آلة الحرب الإسرائيلية التي عجزت عن الوصول إلى صرح ذلك المشفى..
كانت إرادة عجوز تنشر الثياب تحت ضوء ذلك الشهيد الفذّ غريبة.. في نفس قرية ذلك الغصن المتين.. الحج أحمد.
لنستمع لها، كيف لإرادة هذين الزوجين أن لا تنكسر.. قابلت شبّانًا صنعوا المجد، ووقفت بوجه عصف الغارات والإنزال.. وبعد 19 عامًا وقف زوجها غصنًا صامدًا في وجه العاصفة الأخرى.. عاصفة الجنون الإسرائيلي.. أتراهما اتفقا أن يقف ولا يترنح حتى بعد رحيلها؟ أن يستمدّ منها القوة والصلابة اللتين تسلحت بهما تلك الليلة ليكمل رحلة الصمود مع أحفاده وأولاده ويبقون في منزلهم..
بعد رحيل أولئك الشبان.. عادت حانيةً تلثم الأرض وتشم التراب الذي وطؤوا، وقفت في محراب عشقها داعيةً أن يمدهم الله بالقوة وينير لهم دروبهم بالورد والياسمين!
هنيئًا لكِ، لكل تلك اللحظات التي عشتِها مع تلك الثلة المجاهدة، التي أعزنا الله بها، ونصرنا، وجعل كلمته هي العليا...